حوار مع أحمد المرزوقي، سجين سابق في تزمامارت
منذ خمس وعشرين سنة، بدا كما لو أن المغرب يقوم بمحاولة جدية لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة وتطبيق حكم القانون. فقد تعهّد الملك الحسن الثاني بطي صفحة “سنوات الرصاص”، كما تُدْعى فترة القمع السياسي في المغرب، وتطبيق معايير حقوق الإنسان الدولية في البلاد. وفي أوائل التسعينيات، أطْلقت السلطات سراح السجناء السياسيين، وأغلقت سجن تزمامارت السري سيء الصيت، وعقدت جلسات استماع علنية حول أربعين عاماً من انتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة. لكن التغير المفاجئ عكس ضعف النظام الملكي أمام الضغط الغربي بعد سقوط جدار برلين أكثر مما عكس التزاماً مبدئياً بحكم القانون. وكانت النتيجة هي أن المغاربة يُعامَلون كرعايا للملك إلا إذا قرر الغرب القوي ما يخالف ذلك. إذ لم يُحاكم أحد من المسؤولين عن التعذيب والاختفاءات وعمليات القتل اللاقانونية. ولم يتم تعويض جميع ضحايا الانتهاكات بشكل ملائم، هذا إن حدث ذلك. وبعد أن عانوا من غضب النظام الملكي لأكثر من ثماني عشرة سنة في السجن، “أُطلق سراح” المتبقين على قيد الحياة في تزمامارت دون اعتذار أو شرح أو تعويض ملائم، وبدون بنية للدمج الاجتماعي والمهني أو الدعم السيكولوجي.
واستفاد النظام الملكي المغربي من التغير الذهني في الغرب حول أولوية حقوق الإنسان. فقد صارت الجماهير والحكومات الغربية منشغلة بتهديد الإرهاب أكثر من انشغالها بانتهاكات الشركاء الأصدقاء الذين تعهدوا بأن يكافحوا الإرهاب. ومنذ سنة 2001، طُبقت قوانين مكافحة الإرهاب الوحشية وأُنشئت سجون سرية جديدة في المغرب. وبُلّغ عن حالات تعذيب عديدة لا تتعلق بالإرهاب، وغير معروفة جيداً على الصعيد العالمي، وعن أشكال جديدة من التخويف والقمع تستهدف يومياً ناشطي حقوق الإنسان وصحفيين مستقلين وقضاة ومحامين معارضين، ومغني راب متمردين، ورسامي كاريكاتير. وكي توقع بالمنشقين لجأت السلطات إلى احتياطي غزير من القوانين التي تعاقب على الجنس خارج الزواج، وتناول الكحول، أو نقد الملك. بتعبير آخر، أي شيء يمكن أن يُسْتخدم من أجل تكميم المجتمع المدني. واليوم يخاف الديمقراطيون المغاربة من أن نسخة جديدة، ليست أقل مكراً من “أيام الرصاص”، تزحف إلى الحياة الاجتماعية والسياسية المغربية. ما يلي هو محادثة مع أحمد المرزوقي، وهو سجين سابق في تزمامارت، وهو سجن سري يقع في أرض مشاع بين المغرب والجزائر. كان المرزوقي ضابطاً في الجيش اختفى مع 57 عسكريين آخرين بعد محاولتي انقلاب فاشلتين في 1971- 1972. وبعد ثماني عشرة سنة من السجن السري والعزلة التامة (7 آب\\أغسطس 1973- 15 أيلول\\سبتمبر1991)، هلك 32 سجيناً من أصل 58 بسبب أوضاع السجن المزرية. ولولا الضغط الدولي لما بقيَ على قيد الحياة أيٌّ من السجناء ورووا للعالم عن كابوسهم الحي. ذلك أن السجناء، طيلة 6550 يوماً، لم يروا الضوء إلا ثلاث مرات في اليوم حين كان الحراس يدوّرون المفتاح في باب قاعة مظلمة لتقديم “الوجبات” اليومية. وقد شغل المرزوقي الزنزانة رقم 10، التي صارت عنوان مذكراته عن السجن: “تزمامارت، الزنزانة رقم 10” (باريس، منشورات المتوسط:2000). وفي هذه اللقاء يروي المرزوقي تجربته الشخصية في تزمامارت ويستقصي، من منظوره، الأبعاد البنيوية والرمزية للعنف، والتقاطع بين البنيوي والرمزي الذي يشرح الانهيار الرائع لنظام سجون الدولة الأكثر قسوة وسرية.
عبد السلام المغراوي: أمضيتَ أكثر من 18 سنة سجن في أكثر الأوضاع سوءاً، كيف تتذكر بداية الأمر؟ أية أفكار وصور وأصوات تجيء إلى ذهنك في موقف الخطر المحدق وفقدان القوة الكامل؟
أحمد المرزوقي: إنه كابوس مريع أعيشه كلما تذكرت الأحداث المأساوية في تلك الليلة المشؤومة، ليلة السابع من آب\\أغسطس 1973. حُجزنا في جناح الحبس الانفرادي في سجن القنيطرة (1) حين سمعنا الخبطات القوية على الأبواب حوالى الثانية صباحاً. صاحت أصوات عالية: “استيقظوا! اتركوا كل مقتنياتكم هنا واخرجوا”. لم نمتلك أية فكرة ما الذي يجري، لكننا كنا مرتبكين ومرعوبين. هل سينقلوننا إلى سجن مجهول؟ هل سيعدموننا؟ هذه هي الأسئلة التي تأتي غريزياً إلى ذهنك في ظروف كهذه. حين نظرنا من خلال النافذة المغطاة بالأسلاك الشائكة لزنزانتنا استطعنا أن نلمح دزينات من رجال الشرطة يتحركون في الدهليز كالمجانين، وثمة رشاشات في أيديهم. كانوا يصدرون الأوامر للمساجين ولبعضهم، مسببين شجاراً مرعباً… انفتح باب زنزانتي فجأة ولم أمتلك الوقت كي ألتقط أي شيء. كان لدي ما يكفي من الوقت فقط كي أرتدي لباس السجن الصيفي وهو قميص بسيط وبنطلون أسود وأبيض بتقليمات عمودية، وصندل مصنوع من “إطارات ميشلين”، مثل ذاك الذي يرتديه الرعاة في الريف المغربي البعيد. لا شيء آخر.
قُسمنا إلى مجموعات صغيرة واقتادونا إلى الساحة الخارجية للسجن. كان عدد كبير من رجال الشرطة والحرس وقادة المجموعات ونواب القادة بوجوه قاسية وملامح مصممة ينبحون الأوامر. بدوا ذاهلين ومرتبكين. وسرت شائعة عن احتمال نقلنا إلى سجن أقل اكتظاظاً لبعض الوقت. ولكن حين رأينا العقيد فضول، وهو ضابط مخابرات سيء الصيت، تحطم أملنا. عرف الجميع أنه أينما تصطاد هذه البومة الليلية فإن الموت يتبع ذلك. قيدوا أيدينا بسرعة وأعصبوا أعيننا ودفعونا بسرعة في شاحنات عسكرية كانت تنتظر بمحركاتها الدائرة أمام البوابة الرئيسية للسجن.
ساق بنا آسرونا لنصف ساعة في الشاحنات العسكرية إلى قاعدة القوات الجوية في القنيطرة. وبالرغم من أننا كنا معصوبي الأعين، فقد استطعنا أن نلمح طائرتي سي 134على الطريق الإسفلتي كانتا بانتظارنا. أدار الطيارون المحركات. أحاطت بنا ضجة ثاقبة للآذان وبدا كأنها تغمر القاعدة كلها. أجلسونا معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي على مقاعد داخل الطائرة. خنقنا رعب مريع بعد أن همس حارس لسجين:”هل تعرف أيها النذل القذر ما الذي سنفعله بكم؟ سنرميكم جميعاً في المحيط…” انتشر هذا التصريح المرعب كحريق هائل بكلمة الفم بين المحتجزين. غوص في الفراغ… تحطم الجسد على أمواج المحيط العملاقة… الغرق الرهيب والطويل… أسماك القرش التي تمزق أذرعنا وسيقاننا… وحين تخيلت تلك اللحظة المشؤومة بدأ قلبي يخفق بشكل وحشي. ألم يقل القرآن إن الألم أسوأ من الموت؟
أثناء فترة طويلة من الطيران بقينا تحت سيطرة هذه الصورة المرعبة. في حوالى الخامسة صباحاً نزلنا في بلدة قصر السوق (2) أخرجونا من الطائرتين بسرعة، حملونا كيفما اتفق في شاحنات عسكرية فوق بعضنا بعضاً كالماشية، ثم انطلقوا بسرعة إلى جهة مجهولة. كانت الرحلة طويلة وموجعة لأن الطريق الوعر كان يضغط بقوة على ماصات الصدمات في الشاحنات، التي كانت تتمايل بعنف بسبب الانعطافات الكثيرة في الطريق. كنا نرتمي على بعضنا بعضاً في سحابة من الغبار ممتزجة مع رائحة عرقنا البارد. أنزلونا بسرعة، أمرونا أن نقف في صف وأن نسير أمام بعض الضباط الذين جلسوا إلى طاولات عليها أكوام من الملفات. كانت إشارة مشؤومة : بدا كما لو أن وضعنا المدني، وجودنا نفسه كبشر، قد وصل إلى طريق مسدود.
عبد السلام المغراوي: حين كنتم معصوبي الأعين، لا تعرفون اتجاهكم، وتحت التهديد الوشيك بالعنف، كيف استطعتم جمع المعلومات الأساسية حول الفضاء المادي والمحيط؟ أية حواس وأعراف أو أنظمة تذكر واتصال تعمل في موقف من الاستسلام الكامل؟
أحمد المرزوقي: في البداية تبقى معتمداً على المقدرة البصرية. قبل أن نُرمى في زنزاناتنا المظلمة كنا قادرين على التقاط لمحات عن أين نحن من خلال القيام بحركات مفككة. فهمنا بسرعة أننا أمام بنائين طول كل منهما خمسون متراً، يفصلهما امتداد ضيق ومفتوح. كان البناءان على الأرجح بعرض عشرة أمتار وبارتفاع أربعة. وكان هناك سور بارتفاع ستة أمتار وعلب حراسة على كل من الزاويا الأربع، مما يجعل أية محاولة للهرب مستحيلة. أما الساحة المصنوعة من التراب والصخور والرمل فقد كانت منحدرة ولهذا السبب استطعنا رؤية أن ذلك البناء أيضاً أعلى من الآخر. كان لهذا التفصيل أهمية كبيرة لأن الزملاء المسجونين في البناء 2، بالرغم من أنهم يعيشون في الأوضاع المريعة نفسها مثل الآخرين في البناء 1، عانوا من فصول صيف أكثر حرارة وشتاءات أكثر برودة. فُتشنا في البداية بشكل كامل في ممري البنائين اللذين قسمنا إليهما عشوائياً. أزيلت أصفادنا وعصائب أعيننا ودُفع كل منا داخل زنزانة. توسل أحد السجناء الذي كان حسير النظر من الحراس كي يبقوا له نظارته فأجابه أحد الحراس ساخراً: “لا تقلق يا صديقي، لن تحتاج إليها ثانية أبداً!” حين أغلق باب الزنرانة الثقيل وأقفل على كل منا، شعرنا بدمنا يتجمّد في شراييننا. انتابت نوبة ذعر الزملاء حين أدركنا مدى عزلتنا ويأسنا.
كنا مدمرين وواهني القوى غير قادرين على أن نتصور بشكل دقيق المأساة التي حلّتْ بنا أو أن نعبّر عنها. حين تكيّف بصرنا قليلاً مع الظلام اكتشفنا، من خلال شعاع نحيل من ضوء قادم من ثقب في السقف، أن طول الزنزانة ثلاثة أمتار وعرضها متران ونصف، وارتفاعها أربعة أمتار. على يسار أو يمين الزنزانة (بحسب ترتيب الزنزانة) كان هناك ثقب بسيط ضيق مباشرة في الأرض. وكان هذا هو المرحاض. في الأعلى، على ارتفاع حافة السقف فوق رؤوسنا، كان هناك ثلاثة صفوف من الثقوب من أجل التهوية. على الحائط المواجه للباب، لوح كبير من الاسمنت، ارتفاعه متر وعرضه متر. على هذا السطح البارد والقاسي أمضينا 6550 ليلة مع غطائي سرير مهترئين تفوح منهما رائحة المواشي أو الحمير، وصحن بلاستيكي، وإبريق ماء. في الشتاء، كانت درجة الحرارة صفراً، وكان الفصل البارد يستمر ستة أشهر على الأقل. أما الصيف الذي يستمر ثلاثة أشهر فقد كان يتبع فجأة ويجلب حرارة مزعجة وخانقة، وجميع أنواع الحشرات الضارة، بما فيه الصراصير والعقارب وحتى الثعابين. وكان بوسعنا سماع أصواتها حين تسقط عن الحائط أو السقف، لكن لم يكن بوسعنا رؤيتها في الظلام. والغريب أنه لم يتعرض لعضها سوى سجينين. كانت أجسادنا كريهة بحيث أن العقارب لم تجرؤ على الاقتراب منا. كان هناك خمسة عشر حارساً يتناوبون علينا. كانوا روبوتات بشرية، وأميين وقساة، صدرت لهم تعاليم صارمة بألا يتحدثوا معنا أبداً.
عرقلت ظلمة كلية وظيفتنا البصرية العادية، كان لدينا أصواتنا فحسب كي ننجو من القلق العميق للعزلة والفراغ. أدركنا بسرعة أن مفتاح البقاء على قيد الحياة في تازمامارت هو أن نتواصل بانتظام مع رفاقنا. على أي حال، كانت الطريقة الوحيدة للقيام بهذا هو الصياح بملء أصواتنا. ولأننا كنا كلنا نصيح في الوقت نفسه لم نكن نسمع سوى ضجيج واهن ومتواصل من الأصوات البشرية غير المفهومة. أدركنا مبكراً أنه كان من الملح وضع بعض القواعد والقوانين الداخلية للتغلب على الفوضى. وكان مهماً أيضاً إدراك أن سجننا يمكن أن يستمر وقتاً طويلاً. في بنائنا، كنا محظوظين بأنه لدينا بعض السجناء الواضحين والواقعيين، الذين فهموا بسرعة ذلك الاحتمال ونصحونا بأن نكون مستعدين. لكن كثيرين كانوا مقتنعين أنه سيفرج عنا بعد وقت قصير. وبعد شهر من المفاوضات الصعبة بين السجناء، وصلنا إلى تسوية في شتاء 1973\\1974. كان الشيء الأول الذي نحتاج إليه كي نستعيد إنسانيتنا هو الوقت. ففي الظلمة الكلية نهاراً وليلاً، كان الوقت عدونا الأسوأ. اتفقنا على برنامج بسيط:
كنا نستيقظ حالما يظهر أي وهج ضعيف من الضوء من خلال الثقوب في الجدران. في تلك اللحظة، كان الزملاء الذين وقع الدور عليهم لتأدية الواجب (نظمنا الأدوار) يستطيعون البدء بتلاوة بعض الآيات من القرآن بصوت مرتفع. كانت هذه أيضاً علامة بأننا كنا أحراراً في التحدث مع جارنا المباشر حتى موعد وصول الحرس في السابعة والنصف. بعد الفطور، كانت هناك لحظة أخرى للحديث الحر تستمر حوالى 30 دقيقة. بعد الفطور “مباشرة” نبدأ الجلسة اليومية لقراءة ومناقشة القرآن. كانت الجلسات تستمر ساعة ونصف. وكان يتبع هذا لحظة نقاش، ثم ”الغداء” والدعوة إلى صلاة الظهر وساعة من الصمت الكامل الإجباري. سمح هذا لكل السجناء بأن يأخذوا قيلولة ويستريحوا بهدوء. وكانت بقية اليوم تُقسم بشكل مشابه بين الحديث والصلاة والنقاش المفتوح ولحظات صمت إلى حلول الليل. تمسكنا بهذا البرنامج بانضباطٍ عسكريٍّ حتي تم الإفراج عنا في 1991. في البناء الثاني، فشلوا في التنظيم، هيمن العماء والفوضى. وهذا يمكن أن يشرح لماذا مات كثيرون فيه. (3)
عبد السلام المغراوي: لنتحدث للحظة عن الفرق بين البناء 1حيث سُجنت والبناء 2 حيث أغلبية كبيرة من الزملاء هلكوا. السؤال الفوري الذي يخطر على الذهن هو لماذا لم يكن هناك سوى بعض المتبقين على قيد الحياة في البناء 2؟ إذا كانت أوضاع السجن هي نفسها، لماذا بقي سجناء أحياء ومات آخرون؟
أحمد المرزوقي: كانت الأوضاع القاسية للحجز متشابهة، وتحملنا بشكل مساو الكثير من تآكلنا الجسدي وعذابنا النفسي. وكان الشتاء الأول مقيتاً لنا. فبالرغم من شبابنا وتدريبنا العسكري القاسي، فإن البرد الشديد للشتاء في تازمامارت أنهك قوتنا. لم يتساءل أحد عن أوضاع سجننا، ولم يكن هناك قواعد أو قوانين سجن. وضعونا هناك كي نموت موتاً بطيئاً ومؤلماً ومذلاً. سُجنّا في زنزانات انفرادية 24 ساعة في اليوم. ولم يُسْمح لنا حتى بنزهة قصيرة في الساحة، أو أن نلمح الشمس. ولم تكن لدينا رعاية طبية من أي نوع، ولا حتى النظافة الأكثر أساسية. كنا مقتنعين أن زنزاناتنا ستكون قبورنا. مع ذلك لجأنا بشكل غريب إلى كل أنواع السيناريوهات والتبريرات الخادعة للذات كي نتجنب الحقيقة المرة. من كان بوسعه تخيل أنه في نهاية القرن العشرين، تقوم بلاد على بعد 40 كيلومتراً من أوربا، بلاد فخورة بأن يحكمها “أمير المؤمنين” (اللقب الديني للملك)، بدفن أبنائها أحياء، دون اكتراث بالقوانين البشرية والإلهية؟
لو كان بوسعنا قياس الرعب، كانت الأعوام الأولى هي الأسوأ لأن معاملة الحراس كانت قاسية جداً ولم نكن قادرين بعد على رشوتهم كي يوصلوا مصيبتنا إلى العالم الخارجي. في الوقت نفسه، بدأت أوضاع السجن تُحدث تأثيراً حاداً في صحتنا. أُصبْنا بعدة التهابات معوية والتهاب اللوزتين، والتهاب الحنجرة والتهاب الشعب الهوائية مما سبّب حمى داخلية جهنمية. صارت أسناننا ضعيفة جداً ومتخلخلة بسبب غياب النظافة والطعام الجيد. وسبّب تسوس الأسنان وخراجاتها لكل سجين آلاماً لا تُطاق لشهور وشهور، إلى أن سقطتْ أسناننا وابتلعناها مع طعامنا. مع مرور الأعوام، أُصبْنا بكل أنواع الصداع، والأضرار التي تلحق بالعين، الملتحمة، والتهيج، وفقدان حاسة الشم، والروماتيزم، وتصلب الجسد. وبسبب عدم توفر الشمس، ضمرت عضلاتنا وأصبنا بفقر الدم. أضفْ إلى ذلك الطنين والرنين المستمرين في آذاننا بسبب الإجهاد المفرط والتدهور الجسدي العام وكان هذا كابوساً آخر قاد الكثير من رفاقنا إلى الجنون.
عبد السلام المغراوي: مع ذلك في أوضاع قاسية مشابهة مات من السجناء في البناء 2 أكثر بثلاث مرات مما كان عليه الأمر في البناء 1.
أحمد المرزوقي: بالفعل، لقد ضرب الموت في البناء الثاني أولاً. فبعد ستة أشهر من وصولنا، دخل أحد السجناء في البناء الثاني وهو الملازم الطيار محمد شمسي وكان قوياً ويتمتع ببنية جيدة، لكنه دخل حالة من الهذيان المتواصل إلى أن فقد عقله. في صباح أحد الأيام عثر عليه الحراس ميتاً، ورأسه مستند إلى باب زنزانته. بدت الخسارة المأساوية الأولى كمثل قرع ناقوس الموت لنا جميعاً. في الوقت الذي خسرنا فيه رفيقنا في البناء 1 محمد ساجي، في صيف 1974، علمنا أن ستة آخرين ماتوا في البناء الثاني. كانت هذه صدمة مريعة ومسببة للكآبة. منذ ذلك اليوم فصاعداً، فقدنا الأمل، واضطررنا إلى التعامل على أساس يومي مع فكرة أن الموت يراقبنا من جميع الزوايا والشقوق في زنزاناتنا. وقد صُدم بعض السجناء من الوفيات بحيث فقدوا عقولهم بعد وقت قصير.
وبالرغم من أن عدداً أقل من السجناء مات في بنائنا، لم نكن أقل رعباً. إن حالة رفيقنا ميمون فاجوري كانت صادمة. كان ضحية هلوسات بلا نهاية، وجعلنا نتحمل أصعب وأقسى لحظة في سجننا الطويل.لأيام وليالي كان يخبط دون توقف بحجر على باب زنزانته مسبباً ضجيجاً مصماً للآذان، مما قادنا تقريباً إلى حافة الجنون. كان تقريباً من المستحيل النوم والتحدث والتأمل أوالحصول على لحظة صمت. بالتدريج، بعد أن فقد كل قواه، هدأ وغاص فجأة في صمت كامل قاطعته بين فترة وأخرى نوبات مريعة من الهذيانات الصاخبة والضحكات المخيفة والهستيرية. في صباح كئيب لأحد الأيام، عثر عليه الحراس مشنوقاً: عيناه الناتئتان كانتا تحدقان في بخّة دم اندفعت من أنفه إلى الجدار.
في البناء الثاني، كان الوضع أسوأ. ففي أحد الأيام المشؤومة، توفي رفيقان لم تفصل بين موتهما إلا ساعات: عبد الصادقي (المعرف باسم مانولو) في الصباح ومحجوب الياكدي في المساء. لم يكن هناك كلمات ملائمة يمكن أن تعبر بشكل كامل وتصف ما مررنا فيه. كان السجناء يختفون واحداً بعد آخر، دوماً بصمت لكن بكرامة. كان الموت يضربنا خبط عشواء كيانصيب جنوني، وكان كل منا يُعذَّب يومياً باعتقاده بأنه يمكن أن يكون الضحية التالية.
عبد السلام المغراوي: كنت تحتضر وحيداً، لكن بصمت وبكرامة… كيف يحافظ المرء على الأمل وإرادة البقاء حين يكون الموت كامناً في الزاوية؟ ماذا تقول لنا تجربتك في تزمامارت عن الوضع البشري؟
أحمد المرزوقي: نعم، قتل اليأس كثيرين، لكننا لم نستسلم أبداً. بعد محاولات متكررة للتعاطف أو الدفع لحراسنا كي يتواصلوا مع العالم الخارجي، نجحنا في إفساد ثلاثة أو أربعة منهم. نجح بعض السجناء في بناء صلة مع عائلاتهم، مما سمح لنا بالحصول على بضائع محدودة ومعلومات قيمة. لسوء الحظ، حين كانت النقود والأدوية تُهرّب إلى البناء بدأت الخلافات وانهيار التنظيم، وتبخر تماسك المجموعة، وساءت العلاقات بين السجناء بسرعة. كانت المشكلة هي كيفية خلق توازن بين المدخل المتساوي إلى الأدوية والاتصال مع عائلات السجناء والحفاظ على سرية اتصالاتنا. وكانت هذه مجازفة هائلة لنا وللحراس الذين نجحنا في إغرائهم. في الوقت نفسه، كان من الصعب إقناع السجناء، الذين لم يسمعوا أبداً من عائلاتهم، أن يصبروا. لكن بفضل بعض السجناء الحكماء الذين كانوا يعرفون كيف يعالجون الخلاف، نجحنا في الوصول إلى اتفاق معقول. بدونهم، كان الحراس غير المنخرطين في الخطة سيدركون ما الذي يجري، وفي هذه الحالة ستكون العواقب مهلكة لنا جميعاً. وبعد بضعة اتصالات متقطعة، عرف العالم الخارجي عن مصيبتنا وبدأت منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية التعبئة. أنكرت السلطات المغربية في البداية كل شيء مباشرة، وصرح الملك الحسن الثاني بثقة بالنفس مذهلة أن تزمامارت لا يوجد إلا في الخيال المرضيّ لأعداء الديمقراطية. وحُضِّر قبرٌ جماعي في وسط الساحة لإبادتنا جميعاً وإزالة أي دليل على وجودنا. على أي حال، كانت المعلومات الدقيقة عن مصيبتنا وأوضاع سجننا قد وصلت إلى العالم.
بعد بضعة أشهر، وتحت ضغط كبير من الدول الغربية، أُجبر الملك على مواجهة المشكلة. بدأت السلطات تخفف الأوضاع أثناء الأسابيع الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من سجننا، ثم أطلق سراحنا أخيراً في 15 أيلول\\سبتمبر 1991.
عبد السلام المغراوي: هل تتذكر لحظات حاسمة، قرارات صعبة، أفعالاً فردية أو جماعية محددة، أنقذت السجناء من موت مؤكد؟
أحمد مرزوقي: رغم إدراكنا لسلوك الحراس القاسي، ذكرنا بعض الضباط الأذكياء أن خلاصنا يعتمد على التواصل الفوري مع العالم الخارجي، والطريقة الوحيدة لبناء تلك الصلة كانت من خلال الحراس. لم تكن هناك طريقة أخرى. شرعنا بعملية يستغرق تنفيذها وقتاً طويلاً، وكان على جميع السجناء التعاون ومواصلة العمل معاً رغم كل أنواع مسائل المساواة والمدخل. وكانت الخطة هي الانتباه الشديد إلى تفاعلات الحراس ومحادثاتهم ونقاط ضعفهم المحتملة من أجل التقاط من يمكن أن يكون أكثر ميلاً إلى الفساد. كانت مسألة حياة وموت، لكن بعض السجناء أصيبوا بحالة اضطراب عقلي ولم يكونوا مدركين بشكل كامل لما كانوا يقولونه. وكنا قلقين من أن يذكر أحدهم دون قصد اسم الحارس المستهدف أو يكشف شيئاً يعرض الخطة للخطر. هذا جعل المشاورة الجماعية والقرار صعباً.
في النهاية، نجح سجينان فقط في تأسيس صلة مع العالم الخارجي. ففي 1979 نجح النقيب صلاح حشاد، وهو طيار صاحب خبرة وأسرته غنية، والملازم مبارك الطويل، وهو أيضاً من طياري النخبة في القوات الجوية، في الاتصال مع زوجتيهما. كانت زوجة حشاد صيدلانية مشهورة في مدينة القنيطرة. ولعبت دوراً مهماً في جدولة مشاكلنا الصحية وإرسال الدواء وبناء الصلات مع العائلات. وقم تم كل هذا سرياً من خلال الحراس الذين نجحنا في إغرائهم. كان التبادل الفعلي للبضائع والنقود والأدوية أو المعلومات يمكن أن يستغرق من عدة شهور إلى سنة بحسب إجازة الحارس وميله. وكانت زوجة الطويل مواطنة أميركية وتعلّم آنذاك في القاعدة الجوية الأميركية في القنيطرة. وبعد أن غادرتْ المغرب، لعبتْ السيدة الطويل دوراً جوهريا في تأسيس صلات مع الشيوخ ومسؤولي وزارة الخارجية الأساسيين. وكان تسلسل الأحداث الذي يقود إلى تخفيف حجز طويل فتحاً. لعقد الآن، كنا مقبورين في زنازيننا نهاراً وليلاً، دون صلة، ولا هواء نقي، ولا ضوء. وفي يوم فائق للعادة في تشرين الثاني\\نوفمبر 1984، فتح أربعة حراس ومدير المعسكر، الذي لم تطأ قدمه البناء منذ يوم احتجازنا، باب الزنزانة رقم 15 حيث كان الملازم الطويل مسجوناً. أخرج حارسان الهيكل العظمي الذي تحول إليه الطويل الذي كان قوي البنية وساعداه على السير لمدة ساعة في فناء السجن. في الأيام التالية سُمح له بالسير في الخارج لساعات أطول. ثم أجريت له كل أنواع الاختبارات الطبية والعلاج الخاص. علمنا فيما بعد أن قافلة طبية نصبت في الفناء للطويل ونُقل في حوامة كي يقابل مسؤولين أميركيين في السفارة الأميركية في الرباط. وبفضل الجنسية الأميركية لزوجة الطويل ونشاطها قام مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية في إدراج قضية الطويل وتزمامارت في نقاط محادثات الرئيس الأميركي جورج ه. دبليو، بوش أثناء لقاء مع الملك الحسن الثاني. بعد ذلك خرجت إلى العلن الكلمة حول تزمامارت.
حين أُطلق سراحنا سنة 1991، كنا موتى أكثر مما كنا أحياء. لم يكن لدى الموتى ما يحسدوننا عليه. مثلهم تماماً، بدونا كهياكل عظمية منبوشة. وبالرغم من كل الحديث عن لجنة العدالة والمساواة المغربية، فإن مأساة ما حدث في تزمامارت ما تزال مجهولة. ما تزال السلطات ترفض منحنا تعويضاً فقط كي نظل على قيد الحياة، كما فعلت مع سجناء مدنيين آخرين. بتعبير آخر، حُكم على كثير منا بأحكام سجن من ثلاث إلى خمس سنوات، ورغم ذلك فقد سُجنّا اعتباطياً وعشوائياً بشكل مخالف للقانون لأكثر من 20 سنة في أسوأ الظروف. يأمل النظام فقط أن الساعة البيولوجية للناجين ستتوقف بالتدريج، يوماً بعد يوم. اليوم نحن في (آذار\\مارس 2015)، مات ستة من الذين نجوا من تزمامارت وافتهم المنية: أحمد ريجالي، عبد الكريم الشاوي، عبد الكريم السعودي، إدريس داغوغي، محمد الرايس وبوشعيب سيكبا. لهذا من المهم بالنسبة للمغاربة والعالم ألا ينسوا أبداً.
عبد السلام المغراوي: لدي سؤال أخير، ما الدور الذي لعبه الإيمان الديني؟ أفهم أن الصلاة وتلاوة القرآن بصوت مرتفع ساعدكم على تأكيد إنسانيتكم حين كان سجانوكم يفعلون ما بوسعهم لحرمانكم منها. هل كانت هناك أية لحظة من الشك الوجودي؟
أحمد المرزوقي: كنا جميعاً مسلمين بالولادة والمعتقد، لكن حتى أولئك الذين كانوا مسلمين ممارسين فعلوا ذلك باعتدال. وعلى ما يبدو لم نكن نملك معرفة عميقة بالإسلام وكان معظمنا، رغم إيماننا الذي لا يعتريه شك بالله، يستمتع بمتع الحياة. على أي حال، في تزمامارت كان بعض السجناء الشبان يصلّون باجتهاد وبدأنا جميعاً نتعلم الأحاديث وفصولاً كاملة من القرآن. أولئك الذين كانوا يعرفون أكثر عن الإسلام والتقاليد الإسلامية علمونا. ثم منحنا حارس بشكل سري نسخة من القرآن. في الفراغ والألم واليأس الذي كنا نعيشه، ذلك الإيمان، الذي كان هاجعاً ومخبأ جيداً في أعماق أنفسنا، ظهر فجأة إلى السطح حين كان الجميع يحاولون التمسك بشيء ما. كان ذلك الشيء هو الله. أتذكر رفيقاً كان يتباهى بكونه شيوعياً متشدداً (لم يتوقف عن التحدث عن ماركس ولينين)، تغير بشكل جذري واعتنق الإسلام بعد فترة طويلة من التأمل. بدأنا جميعاً نتعلم القرآن. كان خلاصنا الفريد بما أننا كنا خائفين من الموت ومن أن نعاقب على كل الذنوب التي ارتكبناها قبل سجننا. اعتقد البعض أن ما كان يحدث لهم هو عقاب إلهي جاء تماماً في وقته كي يتوبوا. بعد تعلم القرآن، بدأنا نؤول آياته. كان لكل منا تأويله الخاص، وكان لنا تأويلات مختلفة جداً.
هل كان هناك لحظات شك في الله بسبب ما كنا نعانيه؟ متحدثاً عن نفسي، لم يكن هناك أبداً. لقد أوّلتُ المصيبة كقدر لا مرد له، مصير لا أستطيع تجنبه أو فعل أي شيء لتغييره. على أي حال، تماماً مثل معظمنا، لم أتخل أبداً عن محاولة العثور على طريقة تقود إلى الخلاص. الذين فقدوا الأمل، ماتوا بسرعة. وهكذا حافظت على أملي حياً وإيماني قوياً حتى في أحلك اللحظات. أقنعتُ نفسي أن الذين يعذبوننا لا يمتلكون المستقبل، وأنه في اليوم التالي ستُشرق الشمس بخلاص غير متوقع (تغيير النظام، كارثة طبيعية، هرب فائق للعادة، أو شيء ما…). ولكن مع مرور الزمن، قبلنا أيضاً ما لا يقبل، الموت الوشيك ولكن بكرامة. وكما يقول الله في كتابه العزيز: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون} [الأنبياء: 35َ]. وكنا نعرف أنه أن تموت ضحية خير من أن تموت جلاداً.
[ترجمة: أسامة إسبر]
الهوامش
(1) القنيطرة مدينة صغيرة تبعد 22 ميلاً إلى الشمال من عاصمة المغرب، الرباط.
(2) سميت فيما بعد الرشيدية على شرف الابن الأصغر للحسن، رشيد، قصر السوق على بعد 350 ميلاً إلى جنوب شرق
القنيطرة.
(3) بعد أكثر من 18 سنة من الحبس الانفرادي، عاش من بين السجناء الأصليين الذين يبلغ عددهم 58 واحد وعشرون من بين 29 في العنبر رقم 1 خرجوا أحياء. ولكن فقط سبعة من بين 29 سجين في العنبر الثاني خرجوا أحياء.